البطريرك
سيرة حياة غبطة البطريرك يوسف العبسي
بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق والإسكندرية وأورشليم للرّوم الملكيّين الكاثوليك
أولاً : حياته
هو جوزيف بن عبد الله العبسيّ الدمشقيّ وماري فرج الله مهاوش المارونيّة اللبنانيّة. وُلد في ٢٠ من حزيران ١٩٤٦ في باب المصلّى (دمشق). تلقّى دروسه الأولى في مدرسة راهبات القلبين الأقدسين في مسقط رأسه، ثمّ انتقل إلى مدرسة الآباء اللعازريّين في باب توما، قبل أن ينتقل إلى الإكليريكيّة البولسيّة في حريصا ليتابع دراسته من الصفّ الثامن حتّى البكالوريا القسم الثاني والتي حاز عليها، عام ١٩٦٦، بفرعيها اللبنانيّ والفرنسيّ.
انضمّ بعدها إلى الابتداء في مدينة «غاب» الفرنسيّة على يد الآباء البيض، ثمّ تابع دراسته الفلسفيّة واللاهوتيّة فنال إجازة الفلسفة من الجامعة اللبنانيّة واللاهوت من معهد القدّيس بولس في حريصا
أبرز قسَمه النهائيّ في ٢٥ من آذار ١٩٧٣ بين يدَي الرئيس العام حبيب باشا
سيم كاهنًا في كاتدرائية سيّدة النياح في دمشق، في ٦ من أيّار ١٩٧٣ وذلك بوضع يد البطريرك مكسيموس الخامس
في سنة ١٩٨٩ حاز على الدكتوراه في الموسيقى من جامعة الروح القدس – الكسليك، في الهمنوغرافيا البيزنطيّة
يتقن اللغات الفرنسيّة والإنكليزيّة واليونانيّة واللاتينيّة والقليل من الإيطاليّة والسريانيّة
يُتقن بشكل جيّد جدًّا الموسيقى البيزنطيّة الليترجيّة والترنيم الكنسيّ وله مقالات دينيّة ومؤلّفات متعدّدة ومسرحيّات دينيّة واضعًا نصّها وملحّنًا ترانيمها
ثانيًا : إنجازاته
في الإكليريكيّة الكبرى وتدريس الفلسفة في المعهد (١٩٧٣ – ١٩٧٦)
مسؤول عن النشر في الدير الرئيسيّ وجونية (١٩٧٦ – ١٩٧٩)
مدير مجلّة «المسرّة» (١٩٧٩ – ١٩٩٠)
مسؤول عن التسجيلات الدينيّة (١٩٨٠ – ١٩٩٠)
انتُخب مدبّرًا ثالثًا في مجلس الجمعيّة (١٩٨١ – ١٩٨٧)
انتُخب مدبّرًا رابعًا (١٩٩٢ – ١٩٩٣)
انتُخب مدبّرًا أوّل (١٩٩٣ – ١٩٩٩)
عُين قيّمًا عامًّا على الجمعيّة (١٩٩٠ – ١٩٩٩)
عُين مديرًا للمكتبة البولسيّة ودار النشر (١٩٩١ – ١٩٩٩)
عُين رئيسًا لمركز جونية (١٩٩٥ – ١٩٩٨)
انتُخب رئيسًا عامًّا للجمعيّة البولسيّة حتّى انتخابه مطرانًا سنة ١٩٩٩
انتُخب من قبل أساقفة السينودس المقدّس أسقفًا كمعاون بطريركيّ ورئيس أساقفة طرسوس شرفًا من قِبل السينودس
في ٢٢ / ٦/ ٢٠٠١ نال السيامة الأسقفية بوضع البطريرك غريغوريوس الثالث بمعاونة المطران يوحنا منصور والمتروبوليت جوزيف كلاّس في كنيسة القديس بولس في حريصا في ٢ / ٩/ ٢٠٠١
عُيّن نائبًا بطريركيًا في دمشق في ١٣ / ١٠/٢٠٠٦
تولّى السدّة البطريركية في 21/6 / 2017
رسالة صاحب الغبطة يوسف الكلّيّ الطوبى بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيّين الكاثوليك بمناسبة عيد الميلاد المجيد 2021
“قد أحبّ الله العالم“
قد أحبّ الله العالم حتّى إنّه بذل ابنه، وحيده، لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة. لا لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلّص به العالم. فمن آمن به لا يدان. ومن لا يؤمن به فقد دِينَ لأنّه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد” (يوحنّا 3: 16-18).
يؤكّد لنا السيّد المسيح في أكثر من موضع من الإنجيل أنّ الله خلق الكون ورتّبه وأعطى الإنسان مكانته المميّزة وموهبته الخاصّة انطلاقًا من محبّته له ومن إرادته في أن يشركه في حياته الإلهيّة ، كما ورد على سبيل المثال في إنجيل متّى حين يقول: “تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملك المعدّ لكم منذ إنشاء العالم” (25: 34). كان في قدرة الله أن يجعلنا كاملين منزّهين عن الخطأ فنسير بشكل تلقائيّ إلى الاتّحاد به وإلى معرفته. كان في قدرة الله أن يجعل من البشر أداة تسير نحو الجودة تلقائيًّا فلا تحتار بين الخير والشرّ ولا تحتاج إلى تمييز وتفكير قبل الإتيان بفعل ما أو عمل ما. لكنّ الله لكونه الخير الأسمى أراد أن يكون للبشر دور فاعل في تدبيره فأعطى الإنسان نعمة العقل والتعقّل وفوق كلّ شيء وهبه حريّة الخيار لكي يتسنّى له أن يسير نحو السماء بمحض إرادته. إنّ قوّة المحبّة الإلهيّة وسموّها يظهران في خلقه الإنسان حرًّا: يستطيع أن يسير نحو الله إن أطاع النعمة وتعقّل أو أن يبتعد عنه إن أعمت بصيرتَه القشورُ الخارجيّة. لم يخلق الباري تعالى مخلوقات تحبّه وتختاره بشكل تلقائيّ بل أعطى الإنسان القدرة على أن يحبّ الله ويختار الحياة معه. لا شكّ أنّ هذه الموهبة خطيرة جدًّا إذ إنّ سوء استعمالها يعني ابتعاد الإنسان عن الله مصدر وجوده وينبوع حياته فينقلب هذا الابتعاد شرًّا وظلامًا وموتًا. لكنّ التدبير الإلهيّ الأزليّ لا يتغيّر ولا يمكن لأيّ أمر أو أيّ حدث أن يعكّره. فحتّى خطيئة الإنسان لم تدفع الله إلى التخلّي عنه كما نقرأ في بولس: “إنّ الله قد برهن عن محبّته لنا بأنّ المسيح قد مات عنّا ونحن بعد خطأة” (روم 5: . بطبيعة الحال، لا ينفصل التدبير الإلهيّ عن قصد الله في الخلق؛ فإن كان الله قد خلق الإنسان حرًّا كذلك تدبيرُه الخلاصيّ يحافظ على حرّيّة الإنسان. فقد كان في قدرة الله، وبكلّ بساطة، أن يمحو خطيئة الإنسان ويعيده إلى طريق الحياة لكنّه، من أجل أن يحافظ على حريّته وأعظم مواهبه، أرسل كلمته الأزليّة اللامحدودة وجعله ضمن الزمن لكي يعلّم الإنسانَ كيف يحسن استعمال حرّيته ومواهبه في خدمة مشيئة الآب أي في خدمة الخير الأعظم للإنسان.
إنّ احتفال الكنيسة السنويّ بعيد تجسّد الكلمة وميلاد السيّد المسيح هو قبل أيّ أمر آخر احتفال بافتقاد الله لشعبه. هو احتفال بمحبّة الله اللامتناهية لأنّه رضي أن ينزل إلى الإنسان الذي اختار الدمارَ عوض البناء، والظلامَ عوض النور، والموتَ الروحيّ في شركة الشرّ عوض الحياة مع الله، لكي يمسك بيده ويرشده إلى الطريق، لكي يجدّد فيه الإرادة ويوجّهها نحو الخير، لكي يحيي فيه ما مات بسبب الخطيئة وارتكاب الشرّ. حتّى حين يتنازل الله إلى البشر يحافظ على خاصيّة الإنسان فلا يدفعه إلى الحياة رغمًا عنه بل يجدّد فيه الإرادة وينير فيه الضمير لكي ينهض هو أيضًا بجهده من الحفرة التي أوقع نفسه فيها. يقول للإنسان أنا الإله قد صرت إنسانًا مثلك لكي أنتشلك من نتائج أفعالك، لكي أريك ما معنى أن تكون إنسانًا وماذا ينبغي عليك أن تفعل لكي تفعّل النعمة التي منحتك إيّاها حين خلقتك. لهذا لا نرى السيّد المسيح، كلمة الله، في حياته بين البشر، يقوم بإلغاء الشرّ بل بمواجهته، لا نراه يحجب قدرة الإنسان على ارتكاب الخطيئة بل يعلّم البرّ، لا نراه يمحو الألم بل يقبله حتّى أبشع الصور منه، وكلّ هذا لكي يعلّم الإنسان أنّه يستطيع أن يواجه الشرّ ويتعالى عن الخطيئة ويتقبّل الألم لكي يصير ابنًا لله. لم يأت الكلمة لكي يحوّل هذا العالم إلى عالم مثاليّ بل لكي يعلّم الإنسان كيف يحوّل حياته اليوميّة إلى حياة سماويّة بعيش القداسة، لكي يزرع فيه الرجاء بأن يكون له نصيب في الحياة مع الآب. هذا الأمر لا يمرّ إلّا عبر الآخر الذي يعيش معي بجواري أو يشاركني في الوطن وفي الإنسانيّة. بهذا نفهم قول الرسول بولس إلى أهل روما : “أحبّوا بعضكم بعضًا حبًّا أخويًّا، وليحسب كلّ واحد الآخرين خيرًا منه؛ كونوا على غير توانٍ في الغيرة، وعلى اضطرام بالروح: فأنتم تخدمون الربّ. وليكن فيكم فرح الرجاء؛ كونوا صابرين في الضيق، مواظبين على الصلاة” (10-12).
يعود عيد الميلاد هذا العام وشرقنا يئنّ أكثر فأكثر تحت وطأة الشرّ والخطيئة والألم: شرّ الاستغلال الخارجيّ والداخليّ؛ الخطيئة تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين وتجاه أوطاننا؛ ألم الفقر والعوز، ألم الذلّ والحاجة، ألم الشكّ واليأس من المستقبل. نرى عائلاتنا تتفكّك بسبب الهجرة ونرى شبابنا يتركون أرضهم سعيًا إلى حياة أفضل. يمرّ بخاطرنا نصيحة القدّيس بولس للأيّام الشرّيرة: “فاحترصوا أن تسلكوا في حذرٍ، لا مسلك الجهلاء، بل مسلك الحكماء؛ افتدوا الوقت الحاضر، لأنّ هذه الأيّام تبطن شرًّا” (أف 5: 15-16). الأيّام الشرّيرة هي سببٌ بل فرصة لنتمسّك أكثر بالرجاء فلا نتصرّف كمن لا رجاء له، لا مسيح له، وكمن لم يعرف المسيح، إذ ما نفع أن يكون لنا المسيح ولا يكون لنا رجاء به. الأيّام العسيرة هي دافع لنا لكي نتذكّر كلام بولس إلى أهل روما: “نفتخر في رجاء مجد الله. وليس هذا فحسب، بل نفتخر حتّى في الشدائد لعلمنا أنّ الشدّة تنشئ الصبر، والصبر الفضيلة المختبرة، والفضيلة المختبرة الرجاء، والرجاء لا يخزى لأنّ محبّة الله قد أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطيناه” (5: 2-5). ما من طريق أمامنا لنعود إلى الوراء وإلى سالف الأيّام بل علينا أن نمضي إلى الأمام. ولا يمكننا أن ننتظر رغد الأيّام وحلوها لكي نتفرّغ لإنجيلنا ولتعاليمه. الآن أكثر من أيّ وقت آخر ينبغي أن نعلم ما هو كنزنا وأين نريد أن يكون قلبنا. إن علّمتنا الأيّام التي نعيشها شيئًا فقد علّمتنا أنّ الاتّكال على البشر لن يجلب لنا الأمان الذي نقصده بل الاتّكالُ على الله فقط. لهذا يدعونا القدّيس بولس إلى التمسّك بالرجاء في أحلك الأوقات. إنّ الحياة الكريمة حقّ لكلّ فرد كما العدالة والمساواة في الواجبات والحقوق. نريدها ونطالب بها ونسعى إلى تحقيقها. وإذ أدعوكم إلى التمسّك بها أناشدكم أن تتغذّوا من كلمات السيّد المسيح التي تخاطبنا في ألمنا وخوفنا خطاب من اختبر ألمنا وخوفنا: “قلت لكم هذا لكي يكون لكم فيّ السلام. في هذا العالم ستختبرون الشدّة، ولكن اطمئنّوا تمامًا فإنّي قد غلبت العالم” (يوحنا 16: 33). إنّ الرجاء المسيحي لا يعني استسلامًا ولا خنوعًا ولا الامتناع عن السعي إلى تحسين ظروف الحياة لي ولأولادي ولمجتمعي. بل بالحريّ يعني أوّلًا الانتصار لرسالة السيّد المسيح وتعاليمه والسعي إلى نشر المحبّة والعدالة والكرامة في المجتمع بقوّة الرجاء الذي في قلبنا والذي نعرف به أنّ السيّد المسيح قد غلب العالم. إنّ العالم يقدّم لنا الكثير من الأمور التي نسعد بها ولكنّه يطلب بالمقابل أن نصبح متعلّقين بها ونصير لها تابعين. أن نضع المسيح أوّلًا في حياتنا يعني أن نعرف أنّ السعادة الحقيقيّة لا تأتي إلّا منه ومن التغذّي بكلامه والعيش به.
إلى هذا الرجاء القويّ أدعوكم أيّها الإخوة والأبناء المحبوبون. وأرفق بهذه الدعوة معايدتي لكلّ فرد منكم سائلًا الله أن يعيد عليكم هذا الموسم المبارك بالفرح والطمأنينة. وإذ أستمطر عليكم بركات الطفل المولود جديدًا، أستودعكم دعاء القدّيس بولس: “ليؤتكم إله الرجاء ملء الفرح والسلام في الإيمان، حتّى تفيضوا رجاء بقوّة الروح القدس” (روما 15: 13).